أحلام وسط ظلام الحرب

رامي محسن - غزة

تتواصل الحرب على قطاع غزة منذ السابع منذ أكتوبر الماضي، وترتَّب عليها تداعيات، أقل ما يُقال عنها أنها كارثية على مجمل نواحي الحياة المتهالكة أصلاً، سيما وأنها طالت كل شيء، فلم تسلم منها الأرواح ولا الذكريات، ولا حتى الوجدان وأحلام الأطفال البريئة.

خلَّفت الحرب ولا زالت حصيلة صادمة من المآسي والويلات، ونزف حاد للمشاعر على هيئة صدمة، عدا عن الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات.

قمت بصياغة حروفها عبر مذكرة الهاتف، داخل خيمة، تحت القصف وعلى وقع الانفجارات المجنونة، سنستمع إلى عدد من أحلام النازحين هرباً من هول الحرب المجنونة، بعد أن حرَّقت الويلات أعصابهم، وأدمت مشاعرهم خوفاً وقلقاً وحيرة، خوفٌ من الموتِ أو فقدان مُحب، قلقٌ من القادم، وحيرة كيف نُدبر أحوالنا؟، متى ستنتهي الحرب والتشرد والنزوح؟، متى وأين سيكون ملتقى العائلة؟ هل في السماء؟ أم في خيمةٍ أخرى، أو فوق ركام منزلنا المتناثر في الأرجاء.

يقول الشاب العشريني "علي"، الذي جمعتني به الصدفة على عربة لبيع القهوة مساء أحد أيام الحرب، "نزحت مرتين، وأنوي النزوح للمرة الثالثة من خيمتي برفح لوجهة لا أعرفها؛ نظراً للحرب وحالة التَّشتت الداخلي، وفوضى الحواس التي أعيشها كما كل الناس، يصمت قليلاً ويتنهد، ثم ينطق بهدوء؛ لا أحلم بشيء، ما الذي يُعنيه الحُلم؟، لم يعد للحياة أي معنى، الحُلم يحتاج لحياة ليست كهذه التي نحياها، فالحرب قتلت فينا الحياة، يا أخي نحن موتى ما زلنا نتنفس، وما أن انتهى حتى انتفض وغادر المكان.

أما  "أم يزن"؛ نازحة وأم لطفلة، وعلى موعد قريب مع الولادة، فتقول: "في حملي السابق كنت أنتظر موعد الولادة بشوق وسعادة، وقبل ولادتي بفترة، كنت أذهب للسوق، أتجول داخل محلات بيع ملابس الأطفال "البيبي" لتجهيز كِسوة المولود، وأتذكَّر أنني كنت أشتري كل قطعة بحب وبفرحة غامرة، أما اليوم فأحلم وأنا على وشك الولادة أن أجد كِسوة لمولودي القادم، فالأسواق فقيرة بالخيارات، وإن وَجدتُ بضع قِطع فثمنُها غال، وجودتها متدنية، لكن لا مجال للاختيار.

من جانِبه يقول الخمسيني "أبو حازم"؛ أحلم باليوم الذي يجتمع به شملُ عائلتى من جديد تحت سقفٍ واحد، بعد أن شتت النزوح شملنا، يصمت ويعاود الحديث؛ كنَّا نجتمع كلُّنا، أنا، زوجتي، أولادي، زوجاتهم والأحفاد على سُفرة واحدة يوم الجمعة، قبلها وبعدها نتبادل أطراف الحديث الدافئ، نشرب القهوة والشاي، نأكل الحلويات، كنَّا نقضي معاَّ يوماً عائلياً سعيداً، يَشِعُ منه الحب والضحكات، يا ابني أحلم أن تعود الحياة لسابق عهدها، يوم أن كانت تسير فيه العجلات، ليوم كانت الحياة سهلة ومُتاحة رغم صعوبتها.

بدورها تقول "أم خالد"؛ أحلم أن تتوقف الحرب الآن، الحرب غيَّرتنا، غيَّرت أرواحنا، علاقاتنا، أشكالنا وهيئة أجسادنا، كبرنا في الحرب كأنها خمسين سنة، كل شيء حولنا تغير، حياتنا أصبحت خيمة وطابور، حطب ونار، نسينا الكهرباء والغاز والحمَّام، نسينا المطبخ وأدوات الطبخ، نسينا كيف نُصفف شعرنا أمام المرآة؟، نسينا شكل الحياة، هل تعلم أن أكبر أحلامي بهذه الأيام الصيفية الحارة شرب كوب ماء مُثلج وبارد؟، هل تعلم أننا نسينا طعم القهوة، وطعم النوم على سرير مريح؟

يحلم الشاب "فراس" بتوقف الحرب والعودة للحياة، فهو يعاني منذ طفولته من مرض مُزمن في جهازه التنفسي، وصف له الأطباء حينها علاج، وأوصوه بنظام حياتي مُعَيَّن، وتجنُّب الأتربة والغُبار ورائحة الدُخان وعوادم السيارات، يقول: إلتزمت بالعلاج فتعايشت مع مرضي وتحسَّنت أموري، أما اليوم فقد تغيَّر كل شيء، أعمدة الدخان من القصف على مرمى النظر، رائحة الأتربة والغبار تملأ الدنيا، عوادم السيارات لا تُطاق، خصوصاً بعد تشغيلها بزيت الطهي لعدم توفر الوقود، ساءت حالتي الصحية، أصبحت أشعر بالاختناق أغلب الوقت، أشعر بهزال وتعب شديد عندما أتحرك.

أما  "حمادة"، فيقول: أبسط الأشياء صارت عندنا أحلام خلال الحرب، تخيل أنني أحلم بطعام خالي من الرمل، لأننا نعيش في خيمة وسط سواتر رملية، ورغم كل كل الدخان المنبعث من الدمار والقصف فقد أصبح سعر السيجارة الواحدة حوالي (35) دولاراً! تخيل أن أحد أحلامي النوم على فرشة مُستوية أمام مروحة كهربائية، تخيل أنني أحلم بالوقوف صباحاً على المغسلة، افتح حنفية الماء، أفرشي أسناني وأغسل وجهي، سئمنا "الكيلة" وجردل الماء، هذه أحلامي زمن الحرب، وأخشى أن تأتيني في المنام على هيئة كوابيس.

ما بين ضياع الحلم بقادم أفضل، وبين حلم سيدة حامل بشراء كسوة لوليدها، وبمستشفى آمن تلد به، وآخر بجمع شمل أُسرته من جديد، وحلم سيدة بشُرب كوب ماء مُثلج وبارد في يوم حار، وحلم أخرى بتصفيف شعرها أمام المرآة، وحلم شاب بتوقف الحرب للحصول على العلاج، آلاف الأحلام البريئة، التي تنشد ليل نهار، على هذه الأرض ما يستحق الحياة.