رامي محسن
غزة
تستمر الحرب في غزة، وفيها يعدم كل شيء، وقد خلفت حتى هذه اللحظة حصيلة لا يمكن تخيلها قياساً بالقطاع الصغير مساحة؛ فالقطاع شريط ساحلي مكتظ بالسكان ومحاصر برا وجوا وبحرا، الناس فيه ينشُدون للحياة ما استطاعوا إليها سبيلاً. وما عدى ذلك من أوصاف كلها مزيفة ولا تشبهها.
الحرب صعبة بكل تفاصيلها، وضحاياها تركوا يتدبرون شؤون حياتهم، ويواجهون ما لا يختارونه، وبين الاختيار واللا اختيار نقيض فطري يتنافى مع أهم حقوق الإنسان المدنية في جيلها الأول؛ لأن الحياة حق والاختيار حق.
ولعل أبسط تجليات الاختيار قدرة الإنسان على اختيار مظهره، مأكله، مشربه، مسكنه، وقت نومه، صحوته، عمله، متابعة فيلمه المفضل، تصفح الإنترنت، المعايدة أو تقديم التعازي، السفر لمن يريد، وسيلة تنقله، استكمال تعليمه... الخ، وهذه ليست أحلام إنما حقوق وتطلعات.
زمن الحرب لم يكن بوسع المعذبين الاختيار في أي من جزئيات حياتهم، وكل ما يحدث ترجمة للقهر، الإجبار، واستلاب الإرادة، فلم يعد بوسع الناس اختيار طعامهم خاصة أن الأصناف محدود والأسعار فوق القدرة.
تخيل!، في كثير من الأحيان كان إعداد وجبة طعام، مُحيراً أكثر من حيرة "نيوتن" لحظة سقوط التفاحة، وفي أحيان كثيرة كانت الوجبة "خبز حاف"، وقد أخبرني أحدهم أنه تسحر في رمضان ملعقة من الزعتر وقليل من الماء!
في أحسن الأحوال، اعتمدت سلسلة الغذاء على النشويات من خبز، أرز، أطعمة معلبة، ونتيجة جهود الإغاثية من منظمات دولية زادت السلة لتضم الأندومي، والعصائر، أما مشتقات الدجاج المجمد والفواكه والخضار، فقليل من يمكنه شرائها ممن هم جنوب وادي غزة، وهذا كفيلا بفقدان الوزن وتغير المظاهر والملامح.
وعن السكن حدث ولا حرج فالخيمة أصبحت الوطن هي للنوم، للطبخ، لتربية الأبناء، لتعليق الملابس على المسامير، وأحيانا للزواج والتكاثر وهذه سنة الله في خلقه، في الشتاء برد قارص، وفي الصيف مثل قطعة من جهنم، وفيها تتلخص الأحلام بالحصول على لترات من الماء بعد الوقوف في طابور طويل وتدافع كبير.
وتتخيل أنك لا تمتلك قرارا بحلق لحيتك!، لأن الحلاق (مصفف الشعر) لا يملك شفرات الحلاقة، وكذلك بالنسبة لقرار الخروج لقضاء أمر ما في مستشفى، أو استلام كابون معونات، أو للسوق، إنك تحسب لهذا المشوار ألف حساب، ففي زمن الحرب دمر معنى الوقت تماما كما الشوارع وسيارات النقل العام... وتنتظر على قارعة الطريق في عز لهيب الشمس تنتظر عربة يجرها حصان لتنقلك أو تقربك من هدفك.
في زمن الحرب، إن لم ترضَ بالخيمة وطن فإن مصيرك الأرصفة، وإن لم تأكل ما تَوفر من طعام (طعام قطط مُجفف، أو علف الطيور)؛ فإن الموت جوعا هو مصيرك، وإن لم تقف على طابور المياه لساعات فإنك لن تموت عطشاً، وإن لم تركب في عربة الحصان فعليك بالمشي ساعات طويلة.
زمن الحرب أصبح الإنسان المتفاعل هو من استطاع الضحك على نفسه بكذبة تُرضيها وهنا تكيف سلبي وتعايش إجباري! وبديل ذلك شخص ناقم، مزاجي، أو مُجرم يجوب الأرض؛ فالحرب والإجبار سواء.
ستنتهي الحرب، لكننا سنبقى ندفع ثمن الاجبار، وكأن حرباً ستشتعل بنا ضحاياها الجسد والروح! فمن سيعيد بيوتنا وذكرياتنا؟ من سيعوض تلك الأم عن ولدها أو زوجها أو أبيها أو أخيها؟ من سيعوض خسارتنا وما فاتنا من فرص؟ من سيمسح مشاهد الحرب وويلات النزوح والفقد من ذاكرة الأطفال؟ كيف سنتعافى من سوء التغذية الحاد والتقزم؟ من سيجيبنا على ألف ألف سؤال.